تعد النمسا بطبيعتها الجبلية الساحرة وتنوع البيئة فيها بين الخضرة اللامحدودة وسلاسل الجبال اللامتناهية بوتقة من الجمال والفن صاغتها يد الخالق في قلب صقيع أوروبا. ويعتبر الصدع الصخري (بيرن شوتس كلام) من أفضل ما ترنو إليه النفس في النمسا خصوصاً وفي أوروبا عموماً إذا ما أراد الإنسان أن يقتطع لنفسه من نفسه برهة ليعلم كم هي جميلة تلك الطبيعة التي نجاورها بسوء وتقابلنا بالإحسان.
(بيرين شوتس كلام) Baerenschuetzklamm هو صدع صخري عميق يقع في جبل “جراتسربيرج لاند” ضمن جبال الألب النمساوية، في مدينة (ميكسنيتس) التي تقع على بعد ساعة بالسيارة من العاصمة النمساوية فيينا، وعلى بعد 35 كيلومتر من مدينة جراتس عاصمة إقليم ستيريا، حيث تتميز الطبيعة بمناظر خلابة وتنبع بين الصخور جداول مائية غاية في الروعة والجمال.
ويمكن الوصول إلى مدينة (ميكسنيتس) خلال أربعين دقيقة من محطة الحافلات من مدينة جراتس، وتبدأ الرحلة في العادة من مدينة (ميكسنيتس) حيث يسير الزائر ويتريض ما يناهز الساعة والنصف وسط المناظر الطبيعية الساحرة ويلمس تلون الطبيعة من حوله كالعروس حتى يصل إلى مدخل الصدع الصخري (ببرن شوتسكلام).
ويرجع الفضل في اكتشاف الصدع قبل مئة عامة إلى الرابطة العامة لمتسلقي الجبال في مدينة جراتس، والتي كان من أهم انجازاتها لفت أنظار الزائرين والسائحين إلى ذلك المكان.
ويدل الحائط الصخري الكبير للصدع والذي يتراوح ارتفاعه بين 200 و300 متر على التاريخ الجيولوجي التليد الذي يصل إليه ذلك الصدع، والذي يقدر بأربعين مليون عام. ومن الناحية النباتية والحيوانية فيعتبر الصدع موئلاً لكثير من النباتات والطيور والحيوانات النادرة ذات الأهمية البالغة في تقدير تاريخ المنطقة الجيولوجي والحيواني والنباتي؛ حيث تنبت بالصدع بعض النباتات التي يصل تاريخ وجودها على الكرة الأرضية إلى العصر الجليدي والتي تغيرت صفاتها النباتية تبعاً لتغير المناخ فكانت كالسجل المكتوب لحقبة من تاريخ الأرض الحيواني والنباتي.
كما يحتوى صدع “بيرن شوتس كلام” الصخري على الكثير من الكهوف الجيرية وكهوف الصواعد والهوابط الرسوبية والتي تحمل في طيات ظلامها الدامس الكثير والكثير من الشواهد على حياة البشر الأوائل الذين داعبت أناملهم وأفكارهم قلب المنطقة الصخري لتلينه بحثاً عن فرصة للحياة.
يُذكر أن الدخول للصدع ليس مجانياً، كما توجد سلالم صاعدة إلى أعلى الجبل حيث تقدم بعض المطاعم الصغيرة المأكولات والمشروبات. وللتمتع بزيارة الصدع الصخري ورؤية جميع ما تضمه جنباته الفسيحة، وانطلاقاً من وعورته الشديدة والتي قد تحول في معظم المواضع بين الزائر وبين غرض الزيارة، فقد تم في العام 1901 تشييد ممشى خشبي كبير يخترق الصدع يصل الزائرين بأكثر المناطق وعورة فيما قد يُطلق عليه تندراً (تلفريك خشبي)، وكان قد سبق ذلك بثلاثين عاما في العام 1878 إعلان منطقة الصدع كمحمية طبيعية من قبل السلطات النمساوية.
ويبدأ ممشى السائحين الخشبي بالقرب من مدينة (بيرنج) على نهر المور، حيث تتاح فرصة رائعة لممارسة رياضة المشي والتنزه وسط الجبال والدروب الجبلية من خلال ما يحتويه الممشى الجبلي من الدروب والسلالم الصاعدة طويلة المسافة. ويمتد الممشى الخشبي ليغطى مسافة خمسة كيلومترات من الصدع الصخري “بيرن شوتس كلام” أو صدع ممشى الدببة، وفي نهاية الممشى تتوفر الفرصة لممارسي رياضة المشي المحترفون لمواصلة التريض والتسلق لجبل (هوخ لانتش) والذي يبلغ ارتفاعه 1722 متر فوق مستوى سطح البحر.
يُذكر أنه في العام 1997 جرى تدمير الممشى الخشبي بفعل عاصفة هوجاء ضربت منطقة الصدع الصخري، ولكن تم لحسن الحظ إعادة ترميم الممشى وإصلاحه في سنوات قليلة.
لقد أتاح الممشى الخشبي لرواده من السائحين فرصاً أكثر من رائعة للوصول إلى أكثر المناطق جمالاً وروعة، والتي يتعذر الوصول إليها بوسائل المواصلات العادية بسبب وعورة المناطق التي يجتازها الممشى الخشبي. ولا يمكن تصور ما يتمتع السائحين من رؤيته من شلالات وينابيع المياه بديعة المنشأ والتأثير بالإضافة إلى التكوينات الصخرية البديعة والأحجار الكريمة بألوانها وطيوفها الساحرة.
0 التعليقات
إرسال تعليق